هذا كلام نفيس جداً لشيخ الإسلام (ابن تيمية) حول هذا الموضوع لكنه يحتاج قراءةً متأنيةً جداً لإدراكه وتصوره , رحم الله الشيخ وجزاه خيراً.
يقول عليه رحمة الله:
(وقوله نحن نقص عليك أحسن القصص بالفتح لم يقل أحسن القصص بالكسر و لكن بعض الناس ظنوا أن المراد أحسن القصص بالكسر وأن تلك القصة قصة يوسف وذكر هذا طائفة من المفسرين, ثم ذكروا لم سميت أحسن القصص ..؟
فقيل لأنه ليس فى القرآن قصة تتضمن من العبر والحكم والنكت ما تتضمن هذه القصة.
وقيل لإمتداد الأوقات بين مبتدأها ومنتهاها .
وقيل لحسن محاورة يوسف وإخوته وصبره على أذاهم وإغضائه عن ذكر ما تعاطوه عند اللقاء وكرمه في العفو.
و قيل لأن فيها ذكر الأنبياء والصالحين والملائكة والشياطين و الإنس والجن والأنعام والطير وسير الملوك والمماليك والتجار والعلماء والجهال والرجال والنساء ومكرهن وحيلهن وفيها ايضا ذكر التوحيد والفقه والسير وتعبير الرؤيا والسياسة والمعاشرة وتدبير المعاش فصارت أحسن القصص لما فيها من المعانى والفوائد التى تصلح للدين والدنيا.
وقيل فيه ذكر الحبيب والمحبوب .
وقيل أحسن بمعنى أعجب ,والذين يجعلون قصة يوسف أحسن القصص منهم من يعلم أن القصص بالفتح هو النبأ و الخبر ويقولون هي أحسن الأخبار والأنباء و كثير منهم يظن أن المراد أحسن القصص بالكسر وهؤلاء جهال بالعربية وكلا القولين خطأ .
وليس المراد بقوله أحسن القصص قصة يوسف وحدها بل هي مما قصه الله ومما يدخل فى أحسن القصص ولهذ قال تعالى فى آخر السورة وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا فى الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا فنجى من نشاء ولا يرد بأسنا عن القوم المجرمين لقد كان فى قصصهم عبرة لأولي الألباب ما كان حديثا يفترى ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل كل شيء وهدى ورحمة لقوم يؤمنون فبين أن العبرة فى قصص المرسلين وأمر بالنظر فى عاقبة من كذبهم وعاقبتهم بالنصر.
ومن المعلوم أن قصة موسى وما جرى له مع فرعون وغيره أعظم وأشرف من قصة يوسف بكثير كثير ولهذا هي أعظم قصص الأنبياء التى تذكر في القرآن ثناها الله أكثر من غيرها و بسطها وطولها أكثر من غيرها بل قصص سائر الأنبياء كنوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم من المرسلين أعظم من قصة يوسف و لهذا ثنى الله تلك القصص فى القرآن ولم يثن قصة يوسف وذلك لأن الذين عادوا يوسف لم يعادوه على الدين بل عادوه عداوة دنيوية و حسدوه على محبة أبيه له و ظلموه فصبر واتقى الله وإبتلي صلوات الله عليه بمن ظلمه وبمن دعاه إلى الفاحشة فصبر وإتقى الله في هذا وفي هذا وإبتلى أيضا بالملك فإبتلى بالسراء والضراء فصبر وإتقى الله في هذا وهذا فكانت قصته من أحسن القصص وهي أحسن من القصص التى لم تقص فى القرآن فإن الناس قد يظلمون ويحسدون ويدعون إلى الفاحشة ويبتلون بالملك لكن ليس من لم يذكر فى القرآن ممن إتقى الله و صبر مثل يوسف ولا فيهم من كانت عاقبته أحسن العواقب في الدنيا والآخرة مثل يوسف ,وهذا كما أن قصة أهل الكهف و قصة ذي القرنين كل منهما هي فى جنسها أحسن من غيرها فقصة ذي القرنين أحسن قصص الملوك وقصة أهل الكهف أحسن قصص أولياء الله الذين كانوا في زمن الفترة
فقوله تعالى نحن نقص عليك أحسن القصص يتناول كل ما قصه فى كتابه فهو أحسن مما لم يقصه ليس المراد أن قصة يوسف أحسن ما قص في القرآن وأين ما جرى ليوسف مما جرى لموسى ونوح وإبراهيم وغيرهم من الرسل وأين ما عودى أولئك مما عودى فيه يوسف وأين فضل أولئك عند الله وعلو درجتهم من يوسف صلوات الله عليهم أجمعين وأين نصر أولئك من نصر يوسف فإن يوسف كما قال الله تعالى وكذلك مكنا ليوسف فى الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء ولا نضيع أجر المحسنين و أذل الله الذين ظلموه ثم تابوا فكان فيها من العبرة أن المظلوم المحسود إذا صبر و إتقى الله كانت له العاقبة و أن الظالم الحاسد قد يتوب الله عليه و يعفو عنه و أن المظلوم ينبغي له العفو عن ظالمه إذا قدر عليه.
وبهذا إعتبر النبى يوم فتح مكة لما قام على باب الكعبة وقد أذل الله له الذين عادوه وحاربوه من الطلقاء فقال ماذا أنتم قائلون فقالوا نقول أخ كريم وإبن عم كريم فقال إني قائل لكم كما قال يوسف لأخوته لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم الراحمين و كذلك عائشة لما ظلمت وافتري عليها وقيل لها إن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه فقالت في كلامها أقول كما قال أبو يوسف فصبر جميل والله المستعان على ما تصفون ففي قصة يوسف أنواع من العبرة للمظلوم والمحسود والمبتلى بدواعى الفواحش و الذنوب وغير ذلك
لكن أين قصة نوح وإبراهيم وموسى والمسيح ونحوهم ممن كانت قصته أنه دعا الخلق إلى عبادة الله و حده لا شريك له فكذبوه وآذوه وآذوا من آمن به فإن هؤلاء أوذوا إختيارا منهم لعبادة الله فعودوا وأوذوا فى محبة الله وعبادته بإختيارهم فإنهم لولا إيمانهم ودعوتهم الخلق إلى عبادة الله لما أوذوا وهذا بخلاف من أوذي بغير إختياره كما أخذ يوسف من أبيه بغير إختياره ولهذا كانت محنة يوسف بالنسوة وإمرأة العزيز وإختياره السجن على معصية الله أعظم من إيمانه ودرجته عند الله و أجره من صبره على ظلم إخوته له ولهذا يعظم يوسف بهذا أعظم مما يعظم بذلك ولهذا قال تعالى فيه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين) مجموع الفتاوى الجزء17 من صفحة 19 إلى صفحة 24
ثم قال -عليه رحمة الله- بعد بسط وترجيح لإعراب لفظ أحسن عند اللغويين في صفحة 39:
(والمقصود هنا أن قوله تعالى نحن نقص عليك أحسن لقصص المراد الكلام الذي هو أحسن القصص وهو عام في كل ما قصه الله لم يخص به سورة يوسف و لهذا قال بما أوحينا إليك هذ القرآن و لم يقل بما أوحينا إليك هذه السورة والآثار المأثورة فى ذلك عن السلف تدل كلها على ذلك وعلى أنهم كانوا يعتقدون أن القرآن أفضل من سائر الكتب وهو المراد والمراد من هذا حاصل على كل تقدير فسواء كان أحسن القصص مصدر أو مفعولا أو جامعا للأمرين فهو يدل على أن القرآن وما في القرآن من القصص أحسن من غيره فإنا قد ذكرنا أنهما متلازمان فأيهما كان أحسن كان الآخر أحسن فتبين أن قوله تعالى أحسن القصص كقوله الله نزل أحسن الحديث والاثار السلفية تدل على ذلك
والسلف كانوا مقرين بأن القرآن أحسن الحديث و أحسن القصص كما أنه المهيمن على ما بين يديه من كتب السماء ).